تطوير الشخصية

ما هي أنماط الشخصية؟ وهل يمكن فعلاً اختزال الإنسان في نوع واحد؟

يستعرض هذا المقال مفهوم أنماط الشخصية عبر التاريخ من نظرية الأخلاط القديمة إلى اختبارات مثل (MBTI) و( DISC )، مع توضيح قصورها العلمي، ثم يركّز على نموذج الخمسة الكبار (Big Five) باعتباره الأكثر دقة وموثوقية في علم النفس الحديث.

 

ما هي أنماط الشخصية؟ وهل يمكن فعلاً اختزال الإنسان في نوع واحد؟

المقدمة

منذ القدم حاول الإنسان فهم الفروق بين الأشخاص: لماذا يكون أحدهم اجتماعياً منفتحاً بينما الآخر انطوائي متأمل؟ ولماذا يتميز البعض بالعصبية أو الحساسية بينما يتحلى آخرون بالهدوء والثبات؟ هذه الأسئلة دفعت الفلاسفة والأطباء وعلماء النفس إلى ابتكار أنظمة لتصنيف الشخصية. غير أن السؤال الأهم هو: هل يمكن حقاً اختزال شخصية الإنسان الغنية والمعقدة في “نوع” واحد فقط؟


معنى أنماط الشخصية

يشير مصطلح الشخصية (Personality) إلى مجموع السمات التي تحدد كيف يدرك الإنسان العالم ويتفاعل معه. وقد حاولت عدة مدارس عبر التاريخ تصنيف هذه السمات إلى “أنماط” أو “أنواع”. لكن مع تطور علم النفس التفاضلي (Differential Psychology) اتضح أن هذه التصنيفات المبسطة لا تعكس بدقة تنوع الإنسان وفرادته.


لمحة تاريخية عن تصنيفات الشخصية

  1. الأخلاط الأربعة (Galen, القرن الثاني الميلادي):
    • الدموي (Sanguine): مرح وحيوي.
    • البلغمي (Phlegmatic): هادئ وبطيء الحركة.
    • الكوليري/الصفرواي (Choleric): سريع الغضب.
    • المالنخولي/السوداوي (Melancholic): يميل إلى الحزن والتأمل.
  2. نظرية كرتشمر (Kretschmer, القرن العشرين):
    • النحيف (Leptosome): حساس.
    • الرياضي (Athletic): قوي ومتفائل.
    • الممتلئ (Pyknic): اجتماعي ومرح.
  3. تصنيف إدوارد شبرانجر (Spranger):
    ركّز على القيم الروحية والثقافية (الاقتصادي، الجمالي، الاجتماعي، الديني…).

هذه النماذج اليوم تُعتبر تاريخية أكثر منها علمية، لكنها تعكس حاجة البشر الدائمة للتبسيط والتصنيف.


لماذا لا تكفي أنماط الشخصية؟

البحوث الحديثة تشير إلى أن التقسيم إلى أنواع جامدة غير علمي. إذ أن الأشخاص المنتمين إلى “نفس النوع” قد يختلفون أكثر فيما بينهم مما يختلفون عن أشخاص من “أنواع أخرى”. كما أن كثيراً من الاختبارات الشعبية (مثل MBTI أو DISC) مبنية على أسس ضعيفة أو حتى غير مثبتة علمياً.

مشكلة “التبسيط المفرط”:

  • وضع ملايين الأشخاص تحت مسمى واحد مثل “منفتح” أو “محافظ” يطمس فروقاً دقيقة بينهم.
  • يعزز الصور النمطية (Stereotypes) مثل “كل النساء كذا، وكل الرجال كذا”.

تعريف أنماط الشخصية بشكل أدق

  • الشخصية (Personality): السمات المستمرة التي تحدد السلوك والإدراك.
  • التصنيف النمطي (Typology): محاولة لتجميع الناس في مجموعات متشابهة.
  • الملف الشخصي (Personality Profile): أداة أكثر دقة لقياس الفرد على أبعاد متعددة بدلاً من حبسه في خانة واحدة.

نموذج الخمسة الكبار (Big Five)

يُعد الأكثر قبولاً علمياً، ويصف خمس سمات رئيسية:

  1. الانفتاح على التجارب (Openness): الفضول، حب الإبداع، والخيال.
  2. الاجتهاد/الضمير الحي (Conscientiousness): الانضباط، التنظيم، والإصرار.
  3. الانبساط (Extraversion) مقابل الانطواء (Introversion): الحيوية والاجتماعية مقابل الميل للعزلة والتأمل.
  4. التوافقية (Agreeableness): اللطف، التعاون، التعاطف.
  5. العُصابية (Neuroticism) مقابل الاستقرار العاطفي (Emotional Stability): الميل للقلق والتوتر مقابل الهدوء والثبات.

مميزات الخمسة الكبار:

  • القياس الطيفي (Spectrum): السمات ليست ثنائية (إما/أو) بل متدرجة.
  • الاختبارات (مثل NEO-FFI): تقدم نتائج دقيقة جداً تسمح لكل شخص بملف فريد.
  • عالمية (Cross-Cultural): تم التحقق منها في لغات وثقافات مختلفة.

MBTI (Myers-Briggs Type Indicator)

  • مستوحى من أفكار كارل يونغ (Carl Jung).
  • يقسّم الشخصية إلى 16 نوعاً عبر أربعة مؤشرات:
    1. الانبساط/الانطواء (E/I).
    2. الحدس/الحس (N/S).
    3. التفكير/المشاعر (T/F).
    4. الحكم/الإدراك (J/P).

مشكلاته:

  • ضعف الصدق (Validity): لا يقيس ما يدّعي أنه يقيسه.
  • ضعف الثبات (Reliability): النتيجة قد تتغير عند إعادة الاختبار.
  • تأثير بارنوم (Barnum Effect): الناس يميلون لتصديق وصف عام وغامض وكأنه خاص بهم (كما في الأبراج).

نموذج DISC

  • وضعه ويليام مارستون (William Moulton Marston) ثم طوّره آخرون.
  • يقسم الشخصيات إلى: المسيطر (Dominance)، المبادِر (Initiative)، الثابت (Steadiness)، الدقيق/الواعي (Conscientiousness).
  • شائع الاستخدام في التدريب المؤسسي، لكن يفتقر للدليل العلمي.

الشخصية والعمل والعلاقات

  • لا يمكن التنبؤ بدقة بنجاح الفرد المهني من شخصيته فقط.
  • الأهم: المهارات، الذكاء العملي، والدافعية.
  • في العلاقات، الاستقرار العاطفي (Emotional Stability) أهم من التشابه في السمات الأخرى.

ملخص (في نقاط بسيطة)

  • أنماط الشخصية فكرة قديمة لكنها مبسطة أكثر من اللازم.
  • اختبارات مثل MBTI وDISC تفتقر للأساس العلمي رغم شعبيتها.
  • نموذج الخمسة الكبار (Big Five) هو الأكثر دقة وموثوقية علمياً.
  • الشخصية لا تحدد النجاح المهني أو العاطفي وحدها؛ بل تلعب القيم والمهارات دوراً محورياً.
  • كل إنسان فريد، وأفضل طريقة لفهمه هي الملف الشخصي المتعدد الأبعاد لا مجرد “نوع” واحد.

الخاتمة

محاولة تصنيف البشر إلى أنماط محددة قد تكون جذابة وسهلة الفهم، لكنها لا تعكس الواقع المعقد للشخصية الإنسانية. ما يميزنا كبشر ليس كوننا “منفتحين” أو “انطوائيين” فقط، بل هو مزيج غني من السمات التي تتفاعل مع خبراتنا وقيمنا ومواقفنا. إن التعمق في فهم الذات عبر أدوات علمية مثل الخمسة الكبار، وتطوير المهارات والقيم، أكثر فائدة بكثير من السعي وراء ملصق نمطي قد يضلل أكثر مما يفيد.


 

زر الذهاب إلى الأعلى