كيف يتحول التوتر من دافع إيجابي إلى عبء مزمن؟
من التحفيز المؤقت إلى الإرهاق العصبي المستمر

ليس كل توتر ضارًّا. في الواقع، يحتاج الإنسان إلى قدرٍ من التوتر الإيجابي ليحفّزه على الإنجاز والتخطيط والمواجهة. غير أن المشكلة تبدأ حين يصبح التوتر عادةً يومية لا تهدأ — حين لا يعود مؤقتًا، بل يتحول إلى توتر مزمن (Chronic Stress) يُرهق الجسد ويُعطّل قدرات التركيز والقرار.
أولًا: الوجه الإيجابي للتوتر — (Eustress)
التوتر الإيجابي هو النوع الذي يساعد على الأداء الأمثل، مثل الشعور بالتحفيز قبل عرض تقديمي أو مباراة رياضية.
هذا النوع من التوتر:
- يُنشّط الجهاز العصبي الودّي (Sympathetic Nervous System) لفترة قصيرة.
- يرفع معدل الأدرينالين والكورتيزول بشكل مؤقت لتحفيز الانتباه والطاقة.
- يختفي سريعًا بعد انتهاء الموقف، ويعود الجسم لحالته الطبيعية عبر الجهاز العصبي نظير الودّي (Parasympathetic Nervous System).
بمعنى آخر، هو الشرارة التي تُشعل الحماس دون أن تُحرق الجسد.
ثانيًا: حين يفقد التوتر توازنه — (Distress)
في المقابل، التوتر السلبي هو الوجه المظلم للاستجابة الطبيعية، ويحدث عندما:
- تتكرر الضغوط دون فترات راحة.
- يفقد الإنسان إحساسه بالسيطرة.
- تتجاوز المطالب قدرته على التحمل.
في هذه الحالة، يبقى محور (HPA Axis) نشطًا باستمرار، ويُنتج الجسم كميات مفرطة من الكورتيزول.
تبدأ النتائج بالظهور في شكل:
- إرهاق دائم وفقدان للطاقة.
- اضطرابات في النوم.
- مشكلات في التركيز والذاكرة.
- انخفاض المناعة وارتفاع ضغط الدم.
ويُعرف هذا التدهور المستمر في التفاعل الفسيولوجي باسم متلازمة التوتر المزمن (Chronic Stress Syndrome).
ثالثًا: المراحل الثلاث لاستجابة التوتر وفقًا لـ (Hans Selye)
العالم الكندي هانس سيليه (Hans Selye) قدّم نموذجًا علميًا يُعرف بـ متلازمة التكيف العام (General Adaptation Syndrome)، يشرح فيه كيف يتعامل الجسم مع الضغوط في ثلاث مراحل:
- مرحلة الإنذار (Alarm Stage):
الجسم يستجيب بإطلاق الأدرينالين والكورتيزول، استعدادًا للمواجهة. - مرحلة المقاومة (Resistance Stage):
يحاول الجسم التأقلم مع الضغط، فيبقى مستوى الكورتيزول مرتفعًا نسبيًا للحفاظ على الطاقة والتركيز. - مرحلة الإنهاك (Exhaustion Stage):
بعد طول مقاومة، تنفد موارد الجسم، فينهار التوازن الداخلي (Homeostasis)، وتبدأ الاضطرابات الصحية مثل الإرهاق العصبي، الاكتئاب، والسمنة.
رابعًا: كيف نعرف أن التوتر خرج عن السيطرة؟
من العلامات التي تشير إلى أن التوتر أصبح مزمنًا:
- اضطراب النوم المستمر (Insomnia).
- توتر عضلي مزمن في الرقبة والكتفين.
- صداع متكرر دون سبب عضوي واضح.
- عصبية مفرطة وصعوبة في التركيز.
- مشكلات في الهضم بسبب زيادة إفراز الأدرينالين.
- ميل للعزلة أو فقدان الاهتمام بالأشياء الممتعة سابقًا.
خامسًا: لماذا يُعد التوتر المزمن خطرًا على الدماغ؟
تُظهر الدراسات أن الإفراط في إفراز الكورتيزول يُقلّل من حجم الحُصين (Hippocampus) — المنطقة المسؤولة عن الذاكرة — ويُضعف القشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal Cortex) التي تنظم القرارات والسلوكيات.
بالتالي، يصبح الإنسان أكثر انفعالًا وأقل قدرة على التفكير المنطقي، ويزداد خطر القلق والاكتئاب والإدمان السلوكي.
ملخص النقاط الرئيسية
- التوتر نوعان: إيجابي (Eustress) يحفّز، وسلبي (Distress) يُرهق.
- استمرار الضغوط يُبقي محور (HPA) نشطًا ويزيد الكورتيزول.
- المراحل الثلاث للتوتر: الإنذار، المقاومة، الإنهاك.
- التوتر المزمن يُضعف الذاكرة والمناعة ويؤثر على الحالة النفسية.
خاتمة
التوتر في جوهره ليس عدوًا، بل رسالة من الجسد بأن هناك خللاً في التوازن. لكنه يصبح عدوًّا حين لا نُصغي لهذه الرسالة.
تعلم قراءة إشارات جسدك واستعادة الهدوء الذهني خطوة بخطوة — فهي ليست رفاهية، بل مهارة بقاء في عالمٍ لا يتوقف عن الضغط.




